الحديث النبوي:
عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعديِّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: “لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ”.
عجبًا لنا! نبذل قصارى جهدنا في السعي نحو دنيا حقيرة زائلة، ونكسل عن بناء منزلة خالدة لنا في جنة عرضها كعرض السماوات والأرض.. فهلا تذكّرنا ذلك؟! هذا الحديث الشريف يذكرنا فلا بأس أن نتدبره، ونتأمل معانيه، ونتعلم كيف تكون الآخرة همنا.
راوي حديث لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة
هو الصحابي الجليل سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة، كان اسمه “حزنا” فغيره النبي ﷺ، توفي أبوه في حياة النبي ﷺ، وقد روى سهل عددًا من الأحاديث، وكان آخر من مات من الصحابة في المدينة.
في ظلال حديث لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة
ما أعظم قيمة الدنيا عند الكثيرين -رغم هوانها عند الله عز وجل- مما جعل العباد يطلبونها ويخطبون ودها وينشغلون بها وكأنهم خالدون مخلدون فيها!
يسعى الإنسان لاهثًا وراء الدنيا وهو غافل عن حقيقتها، وكل همه جمع الأموال في ليل أو نهار، ولو أدرك أن الدنيا إذا كانت تساوي حتى جناح بعوضة لوهبها الله عز وجل للمسلم ومنعها عن الكافر.
لا تحزن على ما فاتك.. فالدنيا لا قيمة لها..
إلى أي مستوى تكون قيمة الدنيا؟ لقد هانت عند الله إلى الحد الذي جعله يرزق الكافر رغم إنكاره وجحوده لله الرازق عز وجل، فهو لا يستحق حتى شربة ماء.
لقد ضرب الرسول مثلًا يوضح مدى هوان الدين وحقارتها بجناح البعوضة، وشربة الماء، فكلاهما لا شأن لهما، ولو كان للدنيا أدنى قيمة عند الله عز وجل لما أعطى الكفار أدنى الأشياء “شربة الماء” وهذا يدل على أن كل ما أعطاه الله لهم ولغيرهم من أول الدنيا إلى آخرها لا يساوي جناح بعوضة.
وفي حديث آخر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: ” أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بِالسُّوقِ، دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللهِ! لَوْ كَانَ حَيًّا، كَانَ عَيْبًا فِيهِ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ ” رواه مسلم.
ومن حقارة الدنيا أن الله قد لا يعطيها لأوليائه الصالحين، وقد أشار النبي ﷺ إلى ذلك في قوله: “إن الله يحمي عبده المؤمن عن الدنيا كما يحمي أحدكم المريض عن الماء”.
وإذا تدبر المؤمن هذه المعاني وأدركها جيدًا اطمأنت نفسه ولم يحزن على كل ما فاته في هذه الحياة من أموال ونعم ورفاهيات ولم يتفرق قلبه على ما في يده خوفًا عليه من النقص أو الضياع.
هذا هو حال المؤمن الحق لا يهفو قلبه على الدنيا ولا ينشغل بها كما لو كان مخلدًا فيها، ولا ينظر إلى ما أعطاه الله للكافرين من نعم وتمكين وحضارات في الدنيا بعين الحسرة، فالدنيا مهما تزينت لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإلا ما وجد الكفار ماءً يشربونه.
لا تفوت قراءة مقالتنا حول المؤنسات الغاليات
تجاهل حقيقة الدنيا يعني الانشغال عن الآخرة
إن سبب ما نراه اليوم من لهث وراء متاع الدنيا وزينتها والتقاتل عليها هو الغفلة عن إدراك حقيقتها وعدم إدراك أننا قد نتركها في لحظة واحدة ونتركه ما حققناه من سلطة ومال ونسب، فما اشتغل أحد بهذه الدنيا إلا وشغلته عن الآخرة وعن ذكر الله وطاعته وعبادته.. بل تسبب ذلك فيما هو أكثر من الظلم والعداء والشر والوقوع في الشبهات وتجاوز الحدود واقتراف الآثام.
والمصيبة الأكبر أن الانشغال بالدنيا قد يحدث للعبد خطوة بعد خطوة، وقد لا يشعر بذلك إذا لم ينتبه، حيث تفتح له الدنيا أذرعها فيبحر في ملهياتها، وينجرف إليها وينشغل بها شيئًا فشيئًا حتى يقع في براثنها.
حقارة الدنيا وتعظيم بعض أمورها في الوحي
قد يختلط الأمر، كيف تكون الدنيا لا قيمة لها عند الله عز وجل، وفي الآيات القرآنية الكريمة تعظيم لبعض أمورها؟ إننا نقرأ قول الله عز وجل: “أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا” فكيف وصف الله ملك آل إبراهيم بالعظمة؟
والجواب أن هذه العظمة لا يمكن أن تقارن بنعيم الآخرة، وإنما للتوضيح للمخاطبين بتقدير الملك وعظمته.
كذلك فهناك من أفعال العباد ما عظمها الله عز وجل سواء كانت خيرًا أو شرا، كقوله تعالى: “وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا” وهذا التعظيم إنما هو راجع لعظم مآله في الآخرة سواء بالنجاة في الجنة أو الخلود في النار.
احصل على نصائح حول حديث اغتنم خمسا قبل خمس هنا
قاعدة مهمة في تثبيت المؤمن
ينطوي هذا الحديث على قاعدة مهمة في تثبيت المؤمن وقت الشدائد والابتلاءات، هذا إذا أدرك المؤمن الحقائق الثلاث التالية:
- أن الدنيا متاع قليل لا تساوي عند الله شيئا.
- أن الله ولي المؤمنين، فهو معهم رحيم بهم.
- أن الله لا يحب الكافرين فهو عدو لهم وغاضب عليهم.
وبناءً على الحقائق الثلاث السابق ذكرها، تأتي القاعدة العظيمة في تثبيت المؤمنين وهي أن الدنيا تكفير لسيئات المؤمن وثواب لحسنات الكافر.
وأما ما نراه من إعطاء الله المؤمن العافية وسعة الرزق في الدنيا فهذا ليس الجزاء المناسب لعمله الصالح، بل قد يكون ابتلاء من الله، فالله يبتلي بالنعم أيضًا لينظر كيف يقابل عبده ذلك، إذن فالعافية التي يتنعم بها المؤمن في الدنيا قد تكون:
ابتلاء من الله عز وجل، أو شيء من الثواب المعجل لأعماله الصالحة، دون أن ينقص ذلك من أجره في الآخرة، أو رحمة من الله بعباده المؤمنين خوفًا عليهم من الكفر أو كثرة المعاصي بسبب حب الدنيا.
كذلك فإن الله لم يرض الدنيا عقابًا لسيئات الكافر لأن بؤس الدنيا مهما اشتد فهو دون ما يستحقه الكافر من العقاب.
افهم المعنى العميق للحديث النبوي ” المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون “
لا تنس نصيبك من الدنيا
ومع هوان الدنيا وحقارتها إلا أننا نقرأ قول الله تعالى ” وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا” وفي ذلك يوصينا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما بأن نعمل فيها بطاعة الله لآخرتنا.
الدنيا هي الطريق الذي نعبر من خلاله إلى المستقر الحقيقي إما إلى الجنة نسأل الله إياها أو النار ونعوذ بالله منها، فالعاقل من يغلّب الآخرة على الدنيا خاصةً في حال التعارض بينهما، ويوقن بقول النبي ﷺ: “مَن جعلَ الهمومَ همًّا واحدًا، همَّ آخرتِهِ، كفاهُ اللَّهُ همَّ دُنْياهُ”.
فوائد وفرائد من حديث لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة
- لا قيمة للدنيا عند الله عز وجل، بل هي مذمومة إلا ما كان في طاعة الله أو أعان عليها.
- من حقارة الدنيا أن أعظم نعيم فيها يتلاشى أمام أدنى عذاب في الآخرة، وأن أعظم بؤس فيها ينسى أمام أدنى نعيم في الجنة.
- التحذير من فتنة الدنيا وعظم تأثيرها على النفوس الضعيفة.
- قيمة الدنيا تتمثل في كونها طريقا للآخرة بما نقدمه فيها من أعمال صالحة.
- استخدام الرسول ﷺ ضرب الأمثال لتقريب المعنى للسامع.
المصادر والمراجع
شرح الحديث – الدرر السنية
سير أعلام النبلاء (سهل بن سعد)
شرح حديث “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة..” – د. خالد السبت
الجمع بين حقارة الدنيا وتعظيم الوحي لبعض أمورها – الإسلام سؤال وجواب
الحذر من فتنة الدنيا – صيد الفوائد