شرح حديث الحمو الموت
عن عقبة بن عامر، أن رسول الله ﷺ قال: “إيَّاكُمْ والدُّخُولَ علَى النِّساءِ، فقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قالَ: الحَمْوُ المَوْتُ”.
في قلعة الإسلام يؤسس النبي ﷺ أعمدة الحياة الاجتماعية، أعمدةٌ هي هُدى وهَدي، ولأن خير الهدي هدي محمد ﷺ كان على المسلمين اتّباعه.
صحابي حديث الحمو الموت
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صحابي جليل، لُقب بـ “الإمام المقرئ”، صاحب النبي ﷺ وقد اشتهر بفصاحته وفقهه، كما كان أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وكان من أصحاب الصفة، شهد فتوحات الشام ومصر، وشهد معركة صفين مع معاوية، ثم بنى دارًا في مصر وتوفي بها سنة 58 من الهجرة، روى عن النبي ﷺ 55 حديثًا من بينها 17 حديثًا في الصحيحين.
اطلع على المؤنسات الغاليات
في ظلال حديث الحمو الموت
لأن النفوس الضعيفة معرّضة إلى الوقوع في المعصية، ولأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.. كان هذا الحديث -مستهلًا بـ “إيّاكم”- بمثابة تحذير مباشر من النبي ﷺ من الدخول على النساء الأجنبيات أو الخلوة بهن، فما اختلى رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان، والنفس البشرية ضعيفة مجبولة على الميل إلى الهوى، فإن لم يهذّبها الإنسان خسر دينه ودنياه.
شرح الإمام النووي في كتابه “شرح صحيح مسلم” معنى الحمو، حيث نقل عن أهل اللغة اتفاقهم بأن الأحماء بصفة عامة هم أقارب زوج المرأة كأبيه وعمه وخاله وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوه، وقد قُصد بالأحماء في الحديث الشريف الأقارب الذين تحل لهم الزوجة.
ما هي الخلوة؟
الخلوة هي مكان الانفراد بالنفس أو بغيرها بعيدا عن أعين الناس، والخلوة الشرعية الصحيحة هي إغلاق الرجل الباب على زوجته وانفراده بها، أما الخلوة المحرمة هي اختلاء الرجل بامرأة لا تحل له، فما سر تشديد النبي ﷺ على عدم الدخول على النساء من أحمائها بخلاف الأجانب؟
ثالثهما الشيطان
السر في التشديد هو أن النفوس البشرية ضعيفة، ويسعى الشرع في أحكامه إلى الحفاظ عليها من الوقوع في الفتن والشرور والمعاصي، لذا يشرع الأحكام التي تقطع الأسباب المؤدية إليها، ومن ذلك التحذير من دخول الأقارب على النساء فهو أخطر من دخول الأجنبي، إذ أن الأقارب يتساهلون في الاختلاط بالنساء والخلوة بهن دون أن ينكر عليهم أحد، بخلاف الأجنبي، مما يؤدي التساهل إلى الوقوع في المعصية، فتكون الفتنة ووقوع الشر منهم أكثر من غيرهم، وهذا من أقوى مداخل الشيطان، وقد حذرنا النبي ﷺ في قوله: “ألَا لا يَخْلُوَنَّ رجُلٌ بامرأةٍ لا تَحِلُّ له؛ فإنَّ ثالثَهما الشَّيطانُ”، فكان النهي سدًا للذرائع وابتعادًا عن مواطن الفتن.
لماذا قال الرسول الحمو الموت
الهدف من تشبيه النبي ﷺ دخول الأقارب على النساء الأجنبيات بالموت:
- لما فيه من ضرورة اجتناب الاختلاط كما يُجتنب الموت.
- أو أنه يفضي إلى الموت بسبب الوقوع في المعصية الموجبة للرجم.
- أو أن الاختلاط يؤدي إلى موت الإيمان في القلوب.
- هل من رخصة؟
النبي ﷺ بين أصحابه يحذرهم من الدخول على النساء الأجنبيات درءً للفتن والوقوع في المعاصي، ولكن رجلاً من الأنصار أراد أن يسأل إن كان هناك رخصة، خاصة وأنهم قد يحتاجون إلى دخول بيت قريبه وفيه زوجته فهل يرخّص له؟ وماذا كان جواب النبي ﷺ؟
لم يرخّص له النبي ﷺ بل حذّره بأن الاختلاء بالحمو هو الموت بعينه! لما يعلم من تساهل الناس في هذا الأمر وعدم استنكاره، الأمر الذي قد يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة ومن ثم الهلاك والدمار.
وسر تشبيه الحمو بالموت هو ما جرت به عادة العرب من وصف المكروه بالموت..
- قال ابن الأعرابي: “هي كلمة تقولها العرب، كما يقال الأسد الموت، أي لقاؤه مثل الموت”.
- وقال القاضي: “معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت، فورد الكلام مورد التغليط”.
- وقال الطبري في تفسير هذا الحديث: “احذروه كما تحذرون الموت”.
وفي هذا المقام إذا وقعت المعصية يكون موت الدين، وموت المختلي برجمه، وموت الزوجة بفراق زوجها إذا طلقها بسبب غيرته، إنه موت لجميع الأطراف على حد سواء.
نعم لا رخصة في هذا الأمر أبدًا، ولا مجال لأن يبدأ الناس بطرح التبريرات من قبيل:
هذا أخو زوجي بمثابة أخي.. لا تسيئوا الظن.. ألا تثقوا في بعضكم البعض؟!.. أنتم موسوسون وشكاكون؟.. أنتم معقدون، رجعيون، متخلفون.. أخوك هذا سيكون رجل البيت في غيابك وسيقوم بشؤون وحوائج بيتك..
وإلى آخر هذه التبريرات التي تسمح باختلاط الزوجة مع أقارب زوجها والتساهل معهم وكأنهم محارم لها، وما أكثر القصص التي وقع أصحابها في مصائب فادحة يندى لها الجبين حطمت حياتهم وخسرتهم دنياهم وآخرتهم.
لذا كان الخوف من أقارب الزوج أشد من الخوف من الرجل الأجنبي، وكان على الزوجة أن تفر من أسباب الموت إذا ما رأتها نازلة عليها، وأن تستتر منهم كأي رجل غريب، فكثرة الدخول على النساء تكون من الأقارب ويكون الخطر أعظم.
هل الحمو أقارب الزوج فحسب؟
ذهب بعض أهل العلم أن الحمو يطلق على قريب الزوج والزوجة أيضًا، وقيل أن “الأختان” هم أقارب الزوجة، وأن “الأصهار” يطلقون على أقارب الزوج والزوجة معًا، ولا شك أن قريبات الزوجة فتنة للزوج، وينبغي عدم التساهل في الخلوة بهن، فالنساء أعظم فتنة على الرجال كما رواه البخاري عن النبي ﷺ: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء”.
صور الاختلاط
هناك بعض العادات المنتشرة في مجتمعنا الآن بين الزوجة وأقارب الزوج وهي عادات محرمة، ومنها:
- المزاح والضحكات في الجلسات العائلية بطريقة غير مباشرة أمام أقارب الزوج.
- الظهور أمام أقارب الزوج بمظهر لا يتناسب مع الزي الإسلامي.
- مصافحة أقارب الزوج.
- تبادل الحديث بأريحية ودون حدود بين الزوجة وأقارب الزوج.
مثل هذه الأمور التي يحتقرها ويتهاون فيها الكثير من الناس، وقد نهى النبي ﷺ عن احتقار الذنب ولو كان صغيرًا بقوله ﷺ: “إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه”، ومن ذلك لا بد من نصحهم برفق وإرشادهم إلى الضوابط الشرعية، وتوعيتهم بحرمة هذه الأفعال، إذ أنها الطريق لفتنة القلوب وفتح باب الشرور.
إضاءات من حديث الحمو الموت
الكثير من الفوائد والتطبيقات العملية يمكن استنباطها من هذا الحديث، ومن بينها:
- التحذير من الدخول على النساء من غير المحارم والخلوة بهن، خاصةً من أقارب الزوج.
- تجنب الوسائل والأساليب التي تؤدي إلى الخلوة منعًا للوقوع في الفاحشة.
- حث الشرع على الابتعاد عن مواطن الزلل بشكل عام، وفي هذا كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب بعدم السكن بين المتأهلين -المتزوجين- وبعدم سكن المتأهلين بين العزاب، وهو ما فعله المهاجرون حين قدموا إلى المدينة في عهد النبي ﷺ.
- العمل بقاعدة “سد الذرائع إلى الفساد” في كل الأمور بشكل عام.