الحديث النبوي:
“عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَارِيَةٌ لِي صَكَكْتُهَا صَكَّةً؟ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: ائْتِنِي بِهَا قَالَ: فَجِئْتُ بِهَا قَالَ: أَيْنَ اللهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ”.
“قالت في السماء”.. من هنا يأتي الاختبار، لتُبصِر الدرب وتتعلّم الإيمان، “في السماء”.. تقف هنا، لتدرك أن كل قلب مصبوغٌ بالفطرة، وأن في كل قلبٍ إيمان!
البطاقة التعريفية || الراوي
معاوية بن الحكم السُّلَمِي صحابي جليل كان يقيم في بني سليم، وكان ينزل المدينة، روى عن النبي ﷺ حديثًا واحدًا حسنًا في الكهانة والطيرة وفي عتق الجارية وهو الحديث الذي معنا وهو حديثٌ طويل، وقال البخاري عنه: له صحبة، وعدّه العلماء من أهل المدينة، وله مواقف كثيرة مع النبي ﷺ ظهرت فيها آثار لينه وحكمته ﷺ وقد أثّرت في معاوية.
شرح حديث أين الله
يروي معاوية ما حدث معه للنبي ﷺ فيقول كان لديه جارية ترعى له الغنم، وذات يوم قضى ذئب على شاة من غنمها، فعندما علم معاوية غضب عليها غضبًا شديدًا فلطمها، فأتى رسول الله ﷺ ليجد له مخرجًا، وسأله هل يعتقها؟ وكان النبي قد كثّر ذلك الأمر، فقال له النبي ﷺ ائتني بها، فلما جاءت الجارية سألها النبي ﷺ أين الله؟ قالت: في السماء، فسألها من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقاله له النبي ﷺ أعتقها فإنها مؤمنة، إيمان الجارية بأن الله موجود في السماء فوق العرش دل على أن التوحيد والإخلاص سكن قلبها، وأنها تؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا يدل أيضًا على أن الإيمان بأن الله في السماء مسألة فطرية لا تقتضي الدراسة والبحث حتى يصل الإنسان ويقرّ بأن الله في السماء، فالإنسان عندما يدعو ربه يرفع يديه ويتجه قلبه نحو السماء، وهذه الفطرة التي جُبل عليها خَلْق آدم.
- أين الله؟
من لا يعرف أين ربه فهو في عداد التائهين لا يعلم وجهة معبوده، فلا يعبده حق العبادة، ولكي يعرف الإنسان ربه لا بد أن يعرف صفاته ويؤمن بها، وصفات الله تعالى المذكورة في كتابه والأحاديث النبوية كالسمع والبصر فإن عقيدة الفرق الناجية أهل السنة والجماعة الإيمان بما ذُكر من الصفات في القرآن والسنة دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه، ومن ذلك صفة العلو والفوقية، ولما كانت هذه الصفة خاصة بذاته سبحانه كان الإيمان بها واجب، “قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سُئل عن معنى قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فقال: الاستواء معلوم (أي: العلو)، والكيف مجهول، والإيمان به واجب”.
أما من أنكر صفات الله -بما فيها صفة العلو- فقد أنكر ما جاء به القرآن والسنة من أدلة على إثباتها، فتلك الصفات صفات كمال لا نقص فيها ولا يجوز نفيها، وإن بعض المتأخرين مَن حاولوا تأويل الصفات والآيات –تأثّرّا بالفلسفة وما أفسدته في عقائد المسلمين- جعلهم يعطّلونها، فحادوا بذلك عن طريق السلف وهو أسلم الطرق وأحكمها.
- وعليه فإن الإيمان بجميع الصفات المذكورة في الكتاب والسنة واجب دون تفريق.
قال نُعيم بن حماد شيخ البخاري: “من شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسَه ولا رسولُه تشبيهٌ”.
- من البطلان الاعتقاد بأن الله في كل مكان -وهو ما قالت به فرق المعتزلة والجهمية-، فهو معنا بعلمه وليس بذاته، لقوله تعالى: “وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ”.
أين الله وما الدليل من القرآن
لما كان القرآن هو الهُدى، والنبي ﷺ هو السراج المنير لهذه الأمة، ولما كان السير نحو الضوء نجاة، ومن حاد عنه أوغل في الظلام، كان لا بد أن نسير على هديه وسنته ﷺ خاصة في أمور العقيدة، وقد تعددت الفرق وكثر التحريف والبدع، وأصبح على المؤمن لزامًا أن يتتبع قول الكتاب وقول نبيه ﷺ ليصل إلى الأدلة الصحيحة، ومنها:
- “سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى”.
- “يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ”.
- “تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ”.
- “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ”.
- “أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ”.
- “إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ”.
- عن النبي ﷺ قال: “الرَّاحِمونَ يرحَمُهم الرَّحمنُ تبارَك وتعالى؛ ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمْكم مَن في السَّماءِ”.
- عن النبي ﷺ قال: “يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ..”.
- وقد حدث أن القاضي أبو يوسف سمع بشر المريسي –وهو من كبار المعتزلة- يقول وهو ساجد “سبحان ربي الأسفل” فأراد أن يقيم عليه الحد بسبب قوله، لأنه أنكر كلام الله تعالى “سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى”.
- وقد سُئل الإمام أبو حنيفة عمن قال: “لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقال الإمام: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: “الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى”، وعرشه فوق سبع سماوات”.
- وسُئل الإمام أحمد بن حنبل عمن قالوا بأن الله تعالى ليس على العرش، قال: “كلامهم كله يدور حول الكفر”.
هذه بعض الأدلة التي من خلالها يتوصّل المؤمن إلى الجواب الشافي وهو “أن الله في السماء”، وهذا نهج السلف الصالح ومذهب أهل السنة والجماعة، والمقصود بالسماء هو العلو وليس التحجيم والتحييز حاشاه، وصفة العلو والفوقية في حق الله هي صفة كمال، ونفيها باطل.
فوائد وفرائد من حديث أين الله
- رجوع الصحابة إلى النبي ﷺ عند وقوع أي مشكلة حتى ولو كانت صغيرة ليعرفوا حكم الشرع فيها
- حسن معاملة النبي ﷺ بالجاهل، وكيفية تعلميه والرفق به وإرشاده إلى الصواب، وهذا خلق جميل نستنبطه من معاملة النبي ﷺ لأصحابه الكرام.
- إنكار النبي ﷺ على معاوية ضربه الجارية.
- بيان حسن معاملة الخدم والرفق بهم.
- العتق يكون للمؤمن فقط دون الكافر، فلو كانت الجارية كافرة لما أعتقها النبي ﷺ
- السؤال بـ “أين الله؟” هو أمر مشروع في الإسلام، وهو سنة عن النبي ﷺ.
- الجواب بـ “أن الله في السماء” مشروع، دل على مشروعيته إقرار النبي ﷺ لقول الجارية، ولموافقته نص الكتاب: “أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ”.
- إيمان المرء لا يصح إلا بالشهادة للنبي ﷺ بالرسالة.
- على المؤمن أن يتمسك بالكتاب والسنة، ويسير على نهج السلف الصالح، ويحذر من اتباع الفرق المبتدعة الضالة.
- سؤال النبي ﷺ للجارية دليل على أنه لا يعلم الغيب –إيمان الجارية-، وهذا بذاته رد على الصوفية القائلين بأنه ﷺ عالم للغيب.
- الله سبحانه وتعلى في السماء فوق العرش وفوق عباده وهو معهم أينما كانوا، يعلم كل شيء، ويحيط بكل شيء.
- من اعتقد بأن الله في السماء فإيمانه صحيح.